آخر المقالات
الرئيسية » رصاص خشن » الغموض في الأدب الحديث بين الافتعال والأصالة

الغموض في الأدب الحديث بين الافتعال والأصالة

د. جودت هوشيار |

ينشأ الغموض في الأدب، عندما يخفق الكاتب في صياغة عمله الأدبي على نحو يسمح للجمهور المتلقي باستيعابه وتذوقه. وبذلك يفقد العمل الأدبي معناه، ومبررات وجوده، ويصبح عاجزاً عن التأثير في القارئ، أو النهوض بأي وظيفة من وظائف الفن. وربما ليست ثمة صدمة أكبر بالنسبة إلى الكاتب، من هذه النتيجة البائسة لجهوده، خاصة إذا كان يعي جيداً دور الأدب في حياة الناس وعوالمهم الروحية.

قد يكون الغموض في العمل الأدبي ناجماً عن الكسل والإهمال عندما لا يجهد الكاتب نفسه بالتفكير من أجل التعبير عن أفكاره بجلاء، أو أن أفكاره مشوشة وغير واضحة، ولا يستطيع التعبير عنها بدقة، فتأتي كتاباته غامضة، أو أن أداة الكاتب ضعيفة اإلى الحد الذي لا يفي بمتطلبات التعبير عن أفكاره ومشاعره من دون لبس أو إبهام.

ثمة كتاب رائع للكاتب الانجليزي “سومرست موم” تحت عنوان: “حصيلة حياتي”، ويقول موم في هذا الكتاب: “لم أكن أطيق كتّاباً يطلبون من القارئ أن يدرك بنفسه ما يرمون هم إليه. هناك نوعان من الغموض تجدهما عند الكتّاب، أحدهما يعود إلى الإهمال، والآخر مقصود، فهناك من يكتنف الغموض كتاباته، لأنه لم يتعلم كيف يكتب بوضوح، وسبب آخر للغموض هو أن الكاتب غير متوثق من معانيه، فشعوره بما يريد الكتابة عنه ضعيف، ولا يستطيع أن يكوّن في ذهنه تعبيراً دقيقاً عنه، إما لضعف تفكيره أو لكسله، وهذا يرجع إلى أن الكاتب لا يفكر قبل الكتابة وفي هذا خطر“.

ولا شك أن أسوأ أنواع الغموض هو الغموض المصطنع الذي يلجأ إليه من يحاول عن طريقه تغطية فشله الفني الناجم عن عدم تكامل أدواته التعبيرية، وافتقاره إلى ملكة الخيال، والأهم من ذلك كله، إن مثل هذا الكاتب يفتعل تجربة عقيمة وهزيلة، ويتعمد التعمية عن طريق استخدام الصياغات اللغوية الملتوية، وغير المفهومة، والاستغراق في التهويمات والشكليات اللغوية الفضفاضة، دون أن يكون لديه أية تجربة حقيقية، نمت وتطورت نتيجة التفاعل الحي بين ذات الكاتب وواقعه الاجتماعي.

وقد بلجأ الفنان إلى افتعال الغموض في بداية حياته الفنية من أجل مجاراة الاتجاهات الحداثية والشكلية الرائجة. ويحدث هذا للفنان في العادة قبل ان يكتسب صوته الخاص ورؤيته الفنية والفكرية المتميزة.

غير أن الكاتب الموهوب حقاً والصادق مع نفسه وجمهوره سرعان ما يتجاوز هذه المرحلة إذا كان لديه ما يقوله للناس. غير أن هذا الانتقال لا يحدث على نحو عفوي، بل عبر عمل دؤوب ومتواصل ليحقق ما يصبو إليه من الوضوح والشفافية.

يقول الشاعر الروسي الكبير الكسندر تفاردوفسكي (1910-1971) في سيرته الذاتية : “في عام 1934 قدمت مجموعة من قصائدي إلى أحد مدرسي الأدب طالبا منه إبداء رأيه فيها. قال المدرس: “لا يجوز كتابة الشعر الآن على هذا النحو. قصائدك في غاية الوضوح ومفهومة تماماً. ينبغي ان نكتب الشعر بشكل لا يستطيع أحد أن يفهمه، مهما حاول ذلك وبذل من جهد. هذا هو أحد متطلبات الشعر المعاصر. ثم أراني عدة مجلات أدبية كانت تحوي نماذج للقصائد التي كانت تنشر في ذلك الحين. ولقد حاولت بعدئذ أن تكون قصائدي عصية على الفهم، ففشلت في تحقيق ذلك لمدة طويلة. وأحسست حينئذ ــ وربما لأول مرة في حياتي ــ بالشك المرير في قابليتي الشعرية، وأذكر أنني كتبت بعد محاولات طويلة قصيدة غامضة، لا استطيع ان اتذكر الآن موضوعها او أي سطر من سطورها”.

وإذا كان تفاردوفسكي قد استطاع بفضل موهبته وذائقته الجمالية الرفيعة أن يتخلص من شرك الغموض المفتعل، فكم يا ترى من دعاة الغموض عندنا لهم الجرأة الكافية ليصرحوا بأن لعبة الغموض التي مارسوها خلال السنوات التي وقع فيها الفن والأدب في بلادنا فريسة للاتجاهات الشكلية، لم تكن سوى عملية تجريب ساذجة ومفتعلة، ولهذا لم تصمد أمام التيار الواقعي الذي أخذ يشق طريقه وسط ركام هائل من النتاجات الشكلية، التي كانت تقليداً للصرعات الأدبية التي تظهر وتختفي في المشهد الثقافي الغربي.

إن المتلقي الذي يتمتع بإحساس جمالي، وذائقة فنية لم يتعرضا إلى التشويه، لا بد أن يرفض هذا النوع من الغموض، لأنه يحول عملية الخلق الفني الى لعبة فارغة، ولأنه ضد طبيعة وقوانين الأدب، والأهم من ذلك أنه يلغي وظيفة الأدب الأساسية.

فالأدب، ليس ترفاً فكرياً لنخبة من المتحذلقين، ولا لعبة شكلية كما يزعم البعض. لأن للأدب وظائف بالغة الأهمية في حياة الناس، والمجتمعات المعاصرة، لا يمكن أن ينهض بها أي شكل آخر من أشكال المعرفة الإنسانية.

الأدب سجل عظيم للحياة البشرية، وهو عالم البحث والمعرفة من خلال الكلمات والصور الفنية ويعتمد على الإيماء والرمز، وعلى التلويح دون التصريح .

الأدب في الوقت الذي يلبي حاجة الانسان الى اللذة الجمالية فانه يتيح له المجال ليزداد معرفة بنفسه وعالمه الروحي وعوالم الآخرين. وهو ليس شكلاً من أشكال المعرفة الإنسانية فحسب وباعثا على المتعة الفنية فقط، ولكنه في الوقت ذاته وسيلة لتجديد الحياة وتغييرها، أي أن له وظائف جمالية واجتماعية.

الغموض بين المبدع والمتلقي

في ضوء هذا التصور يفضل دائماَ، أن يكون الأثر الأدبي واضحا بقدر الإمكان. ولكن هل الغموض يكمن دائماً في الأثر الأدبي ذاته؟ ألا يمكن أن يكون ثمة غموض موهوم لا يتسم به الأثر الأدبي، ولكنه ينشأ لظروف وعوامل موضوعية أو نتيجة لتفسيرات خاطئة للأعمال الأدبية؟

كيف؟

إذا تحدثنا بلغة علم السيبرنيتيك، واستخدمنا بعض مفاهيمها لتوضيح فكرتنا، فإن بوسعنا أن نقول إن العلاقة بين الفنان والواقع تتكون من عدة حلقات متصلة وهي:

الواقع الاجتماعي ـ الكاتب ـ الأثر الأدبي ـ الجمهور المتلقي.

وينشأ الغموض، أو اللا تواصل على وجه الدقة، إذا انفرط عقد هذه الحلقة أو تلك لأي سبب كان، وفي أي مرحلة من مراحل الخلق الفني وتقديمه للمتلقي. وهذا يعني أن اللا تواصل قد يحدث بفعل عوامل ذاتية، أشرنا الى بعضها فيما تقدم أو بفعل عوامل موضوعية وثيقة الصلة بطبيعة ومضمون الأثر الأدبي، وبالشكل الجديد الذي يصوغ به الكاتب أو الشاعر تجربته. فالمحتوى الجديد يتطلب صياغة جديدة وشكلاً جديداً، مما يستدعي بذل جهد إضافي من قبل المتلقي لاستيعابه وتذوقه.

ويمكن القول إذن: إن هذا النوع من الغموض النسبي له علاقة بالمستوى الثقافي والجمالي السائد، وهو لا يكمن في الأثر الأدبي، بل في ذهن المتلقي.

إن الفنان وهو يحاول إدراك الحقيقة الموضوعية، والكشف عن الملامح الأساسية في الواقع، والتعبير عنها، لا بد أن يقوده إحساسه الفني – إن كان كاتباً أصيلاً وصادقاً إلى اكتشاف العلاقات الصحيحة بين الأشياء. وهو يسبق فهم المتلقي بمسافات زمنية بفضل تمتعه بشيء من نبوءة الرائد واستشرافاته المستقبلية.

الغموض في الأدب الجديد

إن تأريخ الثقافة العالمية حافلة بأمثلة توضح بجلاء، كيف أن الأدب الجديد حقاً في مضمونه وشكله والمعبر أصدق تعبيرعن هموم زمانه، قد عانى هو الآخر من هذه المشكلة المحورية من مشاكل الأدب، مشكلة العلاقة بين المبدع والمتلقي. وسنكتفي هنا بمثال واحد فقط:

كان الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي في العشرين من عمره، عندما ألقى قصيدته الطويلة الشهيرة “غيمة في بنطلون” لأول مرة في خريف عام 1913 في مقهى “الكلب الضّال” في بتروغراد، أثارت القصيدة هيجاناً لم يسبق له مثيل. كانت أصوات الشجب والاستنكار تتعالى في أرجاء المقهى، فطلب الكاتب الروائي ميخائيل فولكوفسكي ـ وكان شيخاً مهيباً بلحيته البيضاء الكثة ـ الكلام للتعقيب وقال : “أنا عندكم هنا لأول مرة، ولم التق بكم سابقاً. لقد ألقى الشاعر الشاب قصيدة غير تقليدية. ولولا بعض الكلمات الخادشة في نهايتها لكانت قصيدة رائعة. هذا شعر جديد وأصيل، وغير مألوف، لذا فأنه أثار غضبكم. ولكن مهلا، أنه شاعر موهوب وستتعودون على مثل هذا الشعر، وكل جديد يثير لغطا في البداية لينتهي إلى الاعتراف بموهبة شعرية أصيلة“.

حقاً إن الغموض لم يكن كامناً في قصيدة ماياكوفسكي، بل في أذهان فئة من المثقفين الذين أفسدت الثقافة الرجعية أذواقهم الجمالية والمتمسكين بالقيم البالية. ولم يكن الأدب والفن لدى هؤلاء السادة ضرورة عميقة وملحة، بل وسيلة لهو وتسلية، ومصدراً للكسب المادي والشهرة.

ونحن نجد اليوم أن قصائد ماياكوفسكي مفهومة لدى عشرات الملايين من القراء في جميع أنحاء العالم.

يخلط كثير من الباحثين ونقاد الأدب في بلادنا بين الغموض المتعمد أو التعمية والإبهام من جهة وبين الإيحاء والتلميح من جهة ثانية.

ثمة أعمال إبداعية تتسم بقدر من التعقيد، مثل بعض أعمال جيمس جويس، وشعر بوريس باسترناك، وهي ليست مثيرة لاهتمام القارئ الباحث عن القراءة المسلية . بل تجذب اهتمام القارئ المثقف، الذي يمتلك ذائقة جمالية رفيعة، ويقرأ ما بين السطور.

نظرية الجبل الجليدي

احتل ارنست همنغواي مكانته الرفيعة في الأدب الحديث بفضل اسلوبه الواضح والبسيط ظاهريا، الذي سمّاه بالجبل الجليدي، فهو يقول الكثير باستعمال القليل الموجز من الكلمات ويكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة. نصوص تتألق معانيها العميقة ضمنياً. ويلعب القارئ هنا الدور الاساسي في فهم النص وتفسيره. ويفهمه كل مثقف حسب وعيه وثقافته وادراكه لمضامينه واحساسه بجمالياته. أي أن ثمة مستويات عديدة للفهم والاستيعاب.

وكان همنغواي يقول: “القصة الجيدة، هي تلك التي يحذف منها أقصى ما يمكن حذفه. واذا كان الكاتب يكتب بنصاعة، فإن بوسع القارئ فهم ما هو مخفي بسهولة”.

ولقد جسّد همنغواي نظرية “الجبل الجليدي” على نحو رائع في قصته القصيرة “تلال كالفيلة البيضاء”. القصة على شكل حوار بين رجل أمريكي وفتاة تُدعى جيغ، ويحاول فيه الرجل إقناع الفتاة بإجراء عملية ما، دون أن يفصح عن نوع العملية، ربما كانت إجهاضاً.

لا توجد في القصة أية إشارة إلى أن الفتاة حامل، ولكن القارئ يفهم أن الأمريكي لا يريد أن تنجب الفتاة طفلاً، ويؤدي ذلك إلى تهاوي علاقتهما، ويشعران أن افتراقهما أصبح أمراً حتمياً.

استطاع همنغواي في بضع صفحات وباستخدام الحوار فقط، أن يصف التأريخ الكامل للعلاقة بين الرجل الأمريكي والفتاة. ولكن القارئ يقرأ ما هو مضمر في هذه القصة الرائعة بكل سهولة.

وصفوة القول: إن الغموض من ملامح القصور الفني أو العجز الابداعي، إذا لم يؤدِّ غرضًا فنيًّا صرفًا، في حين أن الغموض الذي يستدعيه الفن هو ميزة إيجابية.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *