الرئيسية » رصاصة الرحمة » الفن المثمر

الفن المثمر

قد يأنف البعض من اعتبار الفن مسألة استثمارية، وقد يرفض البعض مخالطة الفن بالأموال واتساخه بها، كما قد يرفض بعض آخر اتساخ الأموال بالفن، وفي آخر المطاف يعتبر الكثيرون أن الفن هو آخر الاحتياجات البشرية التي يجب أن تصرف عليها الأموال خصوصاً في ظل الأولويات الحياتية المباشرة. علماً أنه وخلال التاريخ، لم يبق شكل من أشكال التنظيمات الجمعية ( كالأديان في كافة عصورها، مثالاً) إلا واستثمر بالفن (كالطقوس والشعائر والغناء والموسيقا الخ)، ولكن النظرة للفن في عالمنا العربي الثالث والأخير لما تزل كليلة عن رؤية التأثير التربوي للفن الذي يقدم عوائد مباشرة واستراتيجية في آن معاً.

أن تستثمر في الفن هو أن تضع نقوداً لإنتاجه كضرورة حياتية تستعيدها مع أرباحها من الإنسان الذي يؤثر فيه ليصبح أقل هدراً وأكثر إنتاجية، فالشعوب التي تتناول الفن كوجبة أساسية هي الشعوب القادرة على احترام قيمة العمل (الإنتاجي)، ورعاية مصالحها وحمايتها كمجتمع موحد. والمسألة هنا ليست إعجازا أو ترفاً، بل معادلة حسابية بسيطة، فتذوق الفن هو عملية غذائية ذهنية ترسخ فعل القيم العليا التي تسعى إلى تحقيقها البشرية، وترسيخ هذه القيم يعود بأرباحه على الإنتاج المجتمعي بكافة أنواعه، وبالتالي فإن توظيف الأموال في الفن هو دعم  لهذا للإنتاج، من خلال تفعيل قيم الرهافة والإخلاص واحترام قيمة العمل الإيجابي والتطلع والطموح واحترام الحياة المجتمعية والكرامة الإنسانية  والمساواة وكذلك محاولات الارتقاء والتطور والاكتفاء، إنها منتجات كبرى إذا ما قيست بحجم الأموال المستثمرة، فالاستثمار في الإنسان هو أرقى أنواع الاستثمار قاطبة.

ربما لو نظرنا بلمحة سريعة إلى العالم سوف نراه منقسم بين شعوب تنتج فنوناً مرتقية، وشعوب لا تنتجها، حيث يبدو الفارق واضح بينهما، فالإبداع أو الإتيان بأمر جديد وغير مسبوق هو أحد منتجات الفن الغذائية، يمكن تعميمه على كافة أنواع الإبداع طالما كان الإنسان هو محور العملية، حيث يتحول الإبداع نفسه من قفزة في المجهول إلى أسلوب حياة يتنوع ويتمايز حسب الإمكانيات الفردية، وعليه لا يمكننا من خلال هذه النظرة أن نفصل إبداعات بيتهوفن عن إبداع اختراع الأسبرين، ولا إبداعات شكسبير أو فولتير بعيدة عن إبداعات جان جاك روسو أو كانت، ربما كانت السينما نفسها تصلح كمثال، فهي جمع إبداعي لمجموع العلوم المتداولة  والناتجة عن الفلسفة من فيزياء وميكانيك وبصريات وكهربائيات إلخ.. إلخ، بحيث لا يمكن فصل الشبكة التي تركب في شرايين القلب المتضيقة عن الفن في كل تجلياته المتداولة.

تتساوى الشعوب الراقية مع الشعوب غير الراقية في شرعة حقوق الإنسان، أي من الناحية الحقوقية الإنسانية العمومية، ولكنها لا تتساوى بالإنتاج ولا باستغلال موارد الطبيعة، حيث يشكل العقل الإنساني أهم مورد من مواردها، والذي يحتاج إلى تغذية وحماية دائمتين لا يمكن استصدارهما من سلطة ما ورائية أو دنيوية، بل بالأداء المجتمعي الذي يشكل جزء من دائرة الحياة الحلزونية المرتقية، حيث تبدو هذه العلاقة تماما كعلاقة البذرة بالبتلة ومن ثم الثمرة فالبذرة مرة أخرى، التي تحتاج إلى رعاية وسقاية لتنمو وتنتج، لذلك لا تتساوى الشعوب رغم تساويها حقوقياً في شرعة حقوق الإنسان، فالفن فقرة أساسية وتأسيسية لوجودها، فهو بمثابة البذرة والرعاية والسقاية معا بلا فصل أو تفضيل، واليوم لا يمكننا النظر في أكثر المنتجات تعقيدا دون الإنتباه الى شكلها الفني ، الذي يمثل حاجة هذه المنتجات للفن.

الحاجة ليست أم الاختراع، فهذا تساو غير عقلاني أو معرفي، الإمكانية هي أم الاختراع، والإمكانية هي عقلية معنوية أولاً، وتحتاج الى مبادرة وهمة أولا أيضاً، كما تحتاج إلى جرأة وخيال بنفس القدر من الأولوية، والجرأة والخيال يختصان بكسر السائد المألوف وتغييره، وهذا اختصاص الفن كغذاء وحيد للعقل والروح، لذلك فالشعوب المفتقدة للفن، أو المتعنتة معه، أو التي تبخل في الاستثمار به، هي شعوب مختلفة عن الشعوب التي تفعل العكس على الرغم من المساواة الحقوقية إنسانياً، ربما كان هنا بعض تفسير لموجات الهجرة الحالية، فالناس لجأت إلى بلدان الفن فيها مستثمر بتوظيفات عالية القيمة، ولكنها لم تذهب إلى أفغانستان والصومال أو إلى الأماكن التي فيها إمكانيات إرتزاق عالية، بل ذهبت إلى بلدان التحضر والرقي على الرغم من الفوارق “الهوياتية”، حيث تبدو الفرصة للاستمتاع والإبداع والاحترام أعلى بكثير من هاتيك الفرص الموشومة بالنكد والممنوعات وضيق الأفق.

إن عدم كسر السائد والمألوف “إيجابيا” هي من صفات تجمعات اللافن السكانية، حيث أنها فشلت أن ترتقي الى حالة المجتمع الحديث الذي يؤسس بالإرادة، لافتقداها لعامل الفن التأسيسي والقادر على جعل القيم العليا ( في حال اختيارها) قيم يمكن ممارستها على الأرض وفي الحياة اليومية، ومن هنا وابتناء على وجود الفن يمكن الاجتراء وتخيل وجود مجتمع معاصر بناء على تحرر الإرادة ووضوحها، ليصبح تأسيس المجتمع قضية إبداعية يمكن للتجمع السكاني القيام بها، وبالتالي الاستمرار بإنتاج الفنون أو التورط به، لأن العيش المجتمعي هو عيش إبداعي يحول أعضائه جميعهم إلى نخبة.

الفن ليس مزحة، وليس ألاعيب تخضع لقوانين الفضيلة، إنه رحلة دائمة للبحث في الإمكانيات الجوانية المبدعة للكائن المجتمعي، وإستثمار هذه الإمكانيات هو قضية وجود يسعى إلى الاستمرار، والاستمرار ليس له وجود بلا ارتقاء، والارتقاء يحتاج إلى فن….لا أدري …ربما…. للأسف.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

متعبون من فرط النوم.. راقصٌ على إيقاع الغياب.. ضياع أنت يا صوت القصب

وحدكَ تدْقُّ الأرضَ عصاك مغشيّاً على وضحِ المدى   لا رفيقٌ يردِّدُ معك شعارَ الجلسةِ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *