آخر المقالات
الرئيسية » رصاصة الرحمة » مواقع التواصل اللا…اجتماعي

مواقع التواصل اللا…اجتماعي

أشكك جداً بترجمة التسمية (السوشل ميديا) إلى العربية، كي تشير  بطريقة غير دقيقة إلى عبارة (مواقع التواصل الاجتماعي)، فلا الترجمة الحرفية مطابقة، ولا الاصطلاحية معبرة تماماً، ولا ممارسة هذا النوع من “التواصل” تشير إلى إيجابية الاستخدام أو نجاعته أو جدواه، بما تقتضيه السوشل ميديا هذه.

ليس لي باع طويل أو قصير في استخدام أدوات المعلوماتية هذه، ولكن ومن خلال العيش في بيئات “تواصلية”، اطلعت على هذه الظاهرة الاجتماعية الخارقة فازددت قناعة بأن السلاح بيد (….) بيجرح. والجرح هنا عمومي جماعي وفي أغلب الأحيان كارثي، فمع الإطلاع  المركز على البوستات، والبلوغات، والكليبات والأفلام التسجيلية، والردود، وردود الردود، وعلى تمظهرات الكبت على أنواعه، الخ، بدت هذه التكنولوجية أي تكنولوجية التواصل تنقسم إلى نوعين: الأول هو السوشل ميديا، والثاني هو مواقع التواصل “الاجتماعي”، وهنا لا أقصد جنسين مختلفين لنفس النوع، بل نوعين مختلفين تماماً.

لا يظنن أحد أنني أقصد أن ثمة فارق حقوقي يصنف من يحق له التعبير عن رأيه أو شخصيته أو ميوله أو حتى شهواته، ومن لا يحق له في هذه الوسيلة (التكنولوجية)، فليس هناك فارق حتى لو صغرنا عقولنا وتعصبنا فالتكنولوجية تفرض قوانينها على المستهلكين، فالجميع لهم الحق بكل خدماتها المتوفرة، والتقوى ليست شرطاً من شروط هذا الاستخدام من أجل تقدير أي فارق محتمل بين الناس، لأن فكرة التواصل  كخدمة، هي في أساسها تهدف إلى تحسين نوعي في المصالح الجامعة للبشر وهي بالأساس منتوج مجتمعي يساعد عملياً على تمتين الأواصر التي تقترحها تكنولوجيات الاجتماع البشري الذي أضحى مركباً ويحتاج إلى بنية ثقافية معاصرة لاستيعاب هذه التكنولوجيات كي يستطيع الاجتماع البشري الاستمرار في هذه الدنيا.

وهنا يبدو الفارق واضحاً بين السوشل ميديا، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمكتوب المدون على صفحات وجدران وتغريدات النوعين يظهر هذه الفوارق الشاسعة، مظهراً التباين بين أبناء المجتمعات، وأبناء السكانيات أو التجمعات الذين لم يفلحوا في تأسيس مجتمع (سوسايتي).

لا أدعي أن مواقع السوشل ميديا (ليس مواقع التواصل)خالية من السقطات الإنسانية العنصرية أو الأخلاقية أو حتى الجرمية، ولكنها في العموم الأعم تعبر عن ثقافة مجتمعية تحاول الإرتقاء وردم الهوات ورأب التفسخات المجتمعية في هذا العصر تحديداً وفي هذه الدنيا تحديداً أيضاً والتي تقوم على التسالم كبنية تأسيسية للوجود السوشلي، ولكن ماذا للمرء أن يرى على الصفحات المكتوبة بالعربية؟ وهنا لا أعمم بل أشير إلى العموم الأعم، إلى تلك الكمية الساحقة من تلك التعبيرات التي تقر بالعداء كقيمة تأسيسية لاجتماعها البشري، لن أطرح أمثلة لأن ضررها لا يقارن بفائدة إعلانها، ولأنها موجودة بكل فخر على أية صفحات يمكن فتحها عشوائياً على الفيس بوك، يوتيوب وتويتر وغيرها. والمؤذي أن هذه “الأدبيات” تتحول مع أرشفتها إلى مرجعيات ثقافية يعود إليها كل من يحتاج إلى شاهد من أهله، لتتحول إلى قاعدة معلومات ضخمة ومؤثرة في الثقافة المنتجة بالضرورة للسلوك البشري.

 أي نوع من التواصل ننشد؟ نحن الناطقون بالعربية الكاتبون بالعربية وغيرها على صفحات الإنترنت؟ إن كان على صعيدنا نحن كتجمعات سكانية ندعي بأننا مجتمعات، أو على صعيد الآخر المقتول بالضرورة حسب التظيرات الفيس بوكية؟

شلالات من الأدلة على “مظلوميات” حقيقية أو واهية أو مفبركة، تنتج كماً هائلاً من الكراهية والتحاقد والعنصرية، مظلوميات عفى عنها الزمن، كما عفى عن طريقة “التفكير” بها ومعالجتها والتدبر بشأنها، فإذا لم يكن لها شيئاً من الصحة، كان لها الكثير من الافتراء، والصراخ والعويل للتحريض والاندفاع للغزو  والانتقام. مظلوميات تذكر بهتلر الذي أراد استعادة كرامة ألمانيا المهدورة في فرساي فتسبب بقتل 50 مليون إنسان وخراب كارثي دمر العالم.

شلالات من الحقد والتكاره والعداء والطائفية والمذهبية والتخلف والعنصرية، تتضمنها صفحات التواصل من أصغر بوست إلى أطول فيديو على اليوتيوب، ناهيك عن العداء الشخصي الشرس الذي يفضح البنية المنحطة لكتابها كأفراد وجماعات. تعبيرات تسلخ عن كتابها وناشريها إنسانيتهم ليصبحوا إستثناءً في إنسانية قدمت لهم حق التعبير بالتساوي، ليحولوا أنفسهم إلى ذئاب القطيع، يقتنصون خروفاً ويعرضون أنفسهم للحذر والقتل ومن ثم يرفعون عقيرتهم بالشكوى من ذل صنعوه بأيديهم، قائلين لسنا كذلك، لسنا كما تروجون حول هوياتنا، ذاهلين عما كتبوه ونشروه وكأنهم لا يزالون يعيشون غيتو الصحراء الثقافي.

صفحات ومواقع تفضح نفسها بنفسها، تقيم الدليل على هوسها بالغزو بأصابع مستخدمي هذه التكنولوجية من دون أية مسؤولية، إذ يعتقدون أن فيهم قوة فريدة  تستطيع صناعة حضارة، وهم قاعدون وراء الشاشات، يعصرنون تشوههم الثقافي بشهادة الآلة المحايدة، معتقدين أن مجرد النشر هو تحضير للاحتفال بنجاح الغزو واستحلال الغنائم، وكأن الآخر لا يراهم ولا يقرأهم ولا يحلل بنيتهم الثقافية، الآخر الذي عليه أن يرضخ لتفقيساتهم “المعرفية” صاغراً، وأن ينصاع إلى قدره المكتوب دون رد أو موقف، فهم على حق ظالمين ومظلومين.

إن اكتشافنا الإمكانية المذهلة للحق في التعبير، أظهرت ما فينا دون تزيين أو تزييف، كشفت الغطاء عن ثقافتنا ومعرفتنا، قياساً إلى المعايير العالمية المعاصرة (شرعة حقوق الإنسان كمثال على بعض هذه المعايير)، وليس قياساً على كميات التفاخر بإنجازات الفهلوة والقسوة والهمجية، وليس قياساً على الحقيقة الموهومة التي تضعنا على أعلى الهرم الحقوقي للبشرية، حسب تفقيسات جمهور الإنترنت.

الإطلاع على صفحات “التواصل الاجتماعي” يعطي شعوراً بالخزي والعار (وليس الخجل فقط) من تلك الكميات من التكاره والتحاقد والعنف وشيطنة الآخر، بدلاً من أن يكون فرصة لترشيد العلاقة مع الآخر وجعلها عقلانية على الأقل، ليس احتراماً للآخر أو عدم محاسبته على “تشويهه” لنا، وليس من أجل مسامحته على استعمارنا ونهبنا، بل من أجل إنقاذ أنفسنا من هذا المستنقع الآسن للتخلف، لقد حولنا صفحات التواصل على الإنترنت إلى منصات للتحريض ضد أنفسنا أولاً وضد الآخر حتى في داخل مجتمعاتنا الموهومة التي ندعي تدليساً بأنها مبتغانا، فبالنظر فقط إلى كم الدعوات الطائفية والمذهبية  الدينية، والأثنية لإزالة الآخر وتنقية “المجتمع” كشرط لوجوده، نلحظ أنها قادرة على تفجير أي مسعى أو نية لتأسيس المجتمع على القواعد المعرفية الحالية، فالآخر القتيل يبدأ بين ظهرانينا، والتساؤلات حول صلاحيته ما هي إلا ذريعة للتخلص منه.

ناهيك عن التحريض ضد ذلك الآخر(الغريب حسب مسلسلات التلفزيون، والغربي حسب مسلسلات المنظرين من الكتبة والصحفجية الخ) الذي لن يذهب إلى الجنة ومع هذا تجب محاسبته وإدانته ومعاقبته في هذه الدنيا، إنها الطبخة المسمومة التي سوف نتناولها نحن الطباخين مع الافتخار بطيب المذاق.

ليس تواصلاً اجتماعياً الذي نقرأه ونراه، بل انقطاعاً وتقسيماً للبنى الاجتماعية، باستقطابها وتجييشها كقبائل تناسب العيش في الصحراء الرملية، قبائل لا تتواصل إلا بالغزو، كمصلحة إنتاجية عليا، ولا تجتمع إلا على غزو.

تجاوزت مدونات الإنترنت حالة اللاتواصل الاجتماعي، إلى حالة اللاتواصل الإنساني، فاحصدوا أيها الزارعون ما بذرته ثقافتكم المكتملة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

مصلوبٌ على باب الرقة

(1) في بلدتي يأتيكَ بالأخبار بائعُ الأحلامِ  والمناجلِ وسكَّاراتُ البليخ والحطّابات وتُشنقُ الطفولةُ دون أنْ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *