آخر المقالات
الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (38)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (38)

المخيم (الجزء الأول – ذاكرة الأشياء)

– على المخيم..

نظر إلي سائق التكسي مذهولاً.. صمت وفي عينيه فراغ الدهشة فأعدت الطلب بصياغة أخرى:

– بقصد عند البطيخة.. أديش بتريد؟

لم نتجادل كثيراً على السعر فجرمانا لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن تلك المنطقة التي باتت جزءاً من الذاكرة. للمرة الأولى منذ ست سنوات قطعت جسر المتحلق الجنوبي باتجاه التضامن، مر في ذاكرتي ذلك اليوم الذي سلكت فيه الطريق ذاته نحو المخيم للعزاء بالحجي أبو حسين، لم يمض حينها على تفجير مخفر الميدان بعملية انتحارية سوى ساعات قليلة، طفلة صغيرة دخلت إلى المخفر وحقيبتها المدرسية معلقة على ظهرها، وبعد دقائق فجرته بمن فيه.

*****

الطريق الواصل بين جامع الماجد والبطيخة مغلق، تسلقت ساتراً ترابياً حتى استطعت الوصول إلى مدخل المخيم حيث تزاحم الناس، ينتظرون أن تصبح الساعة العاشرة ليدخلوا ويتفقدوا بيوتهم كما وعدوهم. الشمس حادة جداً رغم أنها ما تزال التاسعة وقليل، ورغم شهر الصيام يدخن الرجال ويشربون الماء من زجاجات بلاستيكية كبيرة أحضروها معهم كزوادة، سألت ميسون وأنا أشعل سيجارتي:

– صايمة؟

– إنشالله.. بس ما منعرف شو بيصير..

ترتفع غيمة غبار كبيرة قادمة من الأفق فتقول امرأة تقف قربي لقريبتها:

– جابوا الجرافة لتشيل الردم..

انظر حيث غيمة الغبار تتحرك داخلها دبابة تقوم بمناورتها، ثم انظر إلى المرأة قربي تتغير تعابير وجهها المتعب.

صوت إطلاق رصاص متفرق آت من الحاجز، بينما ينظر بعض الرجال إلى عقارب ساعاتهم..

– كأنو الوقت ما عم يتحرك..

تقول ابنة الخال..

الوقت ثقيل بثقل هذه الشمس، أفكر لمَ لم أحضر معي شيئاً أضعه على رأسي، أنا التي تتعبني الشمس. أبحث عن بقعة فيئ أختبئ فيها فلا أجد سوى محرس مرتجل من صفيح قرب حائط جامع البشير، أنظر داخله لأقتفي حياة ساكنيه فأرى بضع فرشات متسخة وأكوام من بطاطا عفنة في الزاوية وأعقاب سجائر تفترش الأرض.

*****

نقرر المناورة بعد أن قام أسامة باستطلاعاته وأيقنّا أن انتظارنا سيطول، فنتجه نحو التضامن لنحاول الدخول عبر الحاجز في نهاية شارع اسكندرون لنصل مباشرة إلى ساحة الطربوش.

تتغير التضاريس العمرانية مع اقترابنا من الحاجز، أمتار قليلة هي البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، بين “ما يزال” و “ما كان” ولم يعد موجوداً.

نقطع الحاجز دون أن يطلب أحد وثائقنا مع تنبيه ألا نُخرج شيئاً من الداخل سوى الأوراق إن كانت ما تزال موجودة.

نسير فوق الردم، جماعات متفرقة مكونة من أسر أتت لتفقّد بيوتها، لا أعرف ما عليّ ان أفعل، أأنظر تحت قدمي كي لا أقع أم إلى ما يحيط بي من أبنية هبطت كبسكويت تكسّر بين يدّي شرطي أمسك بولد يبيع بضاعته عند إشارة المرور.

للمرة الثانية يراودني نفس الإحساس، الأولى كانت في حمص، والثانية هنا، وكأنني أسير عبر ذاكرتي منذ ست سنوات، وليس الآن، أرى كل شيء كما كان، وليس كما هو عليه وأسمع ضجيج الشارع والناس رغم السكون القاتل في أذني، لا صوت سوى صرير الحصى تحت أقدامنا ورشقات متفرقة من رصاص تأتي من بعيد.

نسير في شارع فلسطين باتجاه موقف أبو حسن، ميسون بالكاد تتعرف على معالم الجغرافيا التي ولدت فيها وعاشت حياتها كلها تنقص سنوات ست لا غير. نمر بالقرب من موقف سينما النجوم فالتقط صورة للافتة الزرقاء التي تحمل اسم الموقف، واستغرب أنها لم تصب بطلقة واحدة رغم كل ما حولها من دمار.

لن أصف الأنقاض، ولا رائحة الحريق الواخزة فلا فائدة من ذلك، سأختصر الوصف بأنه لم يبق شيء من معمل البسكويت على يسار الطريق، ولا من صالة الأفراح القريبة منه.

يصعد أسامة إلى بيت عمه ليأتي منه بصورة في برواظ، أولى غنائمنا لاسترجاع ذاكرة الأموات والراحلين. وبينما نسير نحو العمق بحثاً عن مدخل حارة صالح لإيصالنا إلى البيت تمر قربنا سيارة محمّلة بغنيمة من أثاث منزلي، ينظر سائقها نحونا بشفقة ثم يرمي جملته كرصاصة:

– على شو جايين؟ تتحسروا؟

أجل.. أتينا لنشعر بالحسرة، أتينا لنكسر كسرات قلوبنا، لنحاول أن نلملم بعض الأوراق وذاكرة، بينما على ما تبقى من رصيف مجاور تصطفّ أغراض حطام البيوت مفروزة بعناية، كومة برادات وغسالات، المكيفات في كومة وحدها، غرف النوم في كومة أخرى، غرف الجلوس في كومة رابعة، الأواني البلاستيكية وحدها، الأواني المعدنية مصفوفة فوق قبّان، فهي تباع بالوزن، بينما أسلاك الكهرباء والهاتف تعتلي جبلاً أعلى من قمة أفيريست..

فكيف لا نتحسر؟

*****

للأشياء ذاكرة أيضاً، لو أنها فقط تستطيع الكلام.

في مدخل البيت أمام الباب تستقبلنا كندرة الحجة خديجة.. وكأنها عادت من زيارتها للتو.. وخلعتها كي لا تدوس على الموكيت الأحمر الجديد.. أتخيل بأنني حين أدخل الصالون سأراها جالسة على تلك الكنبة، تدخن كعادتها بينما تلاحقها ميادة بـ “المكتة” كي لا يسقط رماد السيجارة على الأرض.

لكنها لم تستقبلنا، آخر مرة كانت هنا في شهر كانون الأول عام 2012، ثم غادرت في نزوح جديد تاركة حذائها ذا الكعب عند المدخل، لم تعد مرة أخرى.. ولن تعود.

ما يزال البيت على حاله لم ينل منه الدمار سوى زجاج النوافذ المتكسّر وطلّاقية مفتوحة وسط الصالون تصل إلى بيت الجيران، معظم الأغراض ما تزال مكانها مغطاة بطبقة سميكة من غبار، أفكر بما كانت ستفعله ميادة المهووسة بالنظافة لو رأتنا ندوس الموكيت الجديد بأحذيتنا وابتسم لفكرة أنها لو كانت معنا فقد يخطر لها أن تجبرنا على خلع أحذيتنا أمام الباب قبل الدخول.

نظرت خلف الباب أول ما دخلت باحثة عن علبة الخياطة، لكنني لم أجدها، علبة معدنية مضلّعة كبيرة ذات حواف بنفسجية اللون حوت البسكويت أو السكاكر فيما مضى، تشبه جميع علب الخياطة في بيوتنا، تشبهنا بصلابتها المعدنية.. لم أجدها.

لملمت صوراً قديمة مرمية على الأرض ووضعتها في كيس لنأخذه معنا بينما أسامة ينزع صورة جده وابيه عن الجدار..

– شوفي.. هي صورة ميادة مع ابي الله يرحمه.. كانت بتحبها كتير..

قالت ميسون وهي تريني صورة لميادة يوم عرسها أحضرتها من غرفة النوم التي كنت أسميها “برّاد التفاح” لأنها باردة جداً شتاء.

في “براد التفاح” هذا، كانت الملابس ما تزال معلقة في الخزائن، والمرآة مكانها لم تتكسّر، بضع زجاجات عطر فارغة، المصحف في علبته وعلب صغيرة في أدراج الكومدينو، أوراق رسمية متناثرة في كل مكان وعلبة الخياطة.. كانت هنا أيضاً، في غير مكانها، لكن دون غطاء.

من بدّل مكانها؟ ولم؟

لا أعرف.. الأشياء وحدها تستطيع أن تشهد بصمت على ما جرى في هذا المكان.

أيضاً.. وجدنا كندرة عرس ميادة، الفردتان، صوّرتها وارسلتها لها لاحقاً على الفيسبووك.. فعلّقت لي تعليقاً طريفاً:

– لا مو كندرة عرسي.. شحاطة حفلة خطبتي من الرقم ٣
وبنت عمي أمل لبستها ع عرسها لان كعب كندرتها انكسر..

فأجبتها بأننا أحضرناها لها في كل الأحوال..

دخلت المطبخ وكانت الغسالة والفرن ما يزالان مكانهما، لكن البراد لم يكن موجوداً، تماماً كحال المكيف في الصالون.. فتحت خزانة الزجاج وأخذت فنجان قهوة للذكرى، وأنا أفكر بكل فناجين القهوة التي شربتها في هذا البيت على مر السنين، الأشياء لها ذاكرة أيضاً، فقط لو تستطيع الكلام لأحصت شفاه جميع من شرب منها في هذا البيت، الحي منهم والميت.

25 أيار 2018

(يتبع…)

 موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *