1- بيروت…
المدينة المطعونة بِحدّ يفصل بين شرقها وغربها. تلك المستلقية بتكاسل على شاطئ بحر أبيض، تثني وركها بعفوية خَدِرة وتمد ساعديها تجاه الشرق بينما تداعب الأمواج أصابع قدميها.
أنظر إليها من الأعلى، كم تغيرت وزادت أبنيتها ارتفاعاً على مساحة جسدها الفضي المغطى بنمش من شظايا حرب لا تشبه حربنا لكنها حرب، ومن بعيد باتت تشبه دبيّ المعدنية المختبئة خلف المرايا تعكس نوافذها الخضرة بدل عواصف الرمال. أحب عمارتها.. شهود الحرب الأهلية جيرانٌ لأبنية مليئة بالحياة.
تستطيع في شارع الحمرا أن تصادف أشخاصاً لم تلتقيهم من سنين، يرتب الله لقاءك بهم لتتقاطع حيواتكم المتباعدة في لحظة تدوم لدقائق لتعود وتتباعد من جديد. فبيروت، مدينة رغم صغر مطارها تجمع الأصدقاء والأقارب على أرض محايدة، تجمع كل من لم يستطع قطع الحدود ليعود أو ليغادر. تستقبله في مقاهيها لتقدم لهم المُسكرات أو القهوة التي تُسرد القصص والأخبار المتراكمة على لحن بخارها الساخن. قهوة في أكواب كرتونية كبيرة طبعت عليها علامات تجارية كـ ستاربكس وغيرها، لا أعرفها ولا أبذل الجهد لتذكرها، فمن لحظة حصارنا الاقتصادي وحرماننا من الانفتاح على الماركات العالمية بأنواعها لم أعد اجد الأمر مهماً، نحن مكتفون بما لدينا من طعام لا يحمل علامة تجارية أجنبية ولا لباس، ورغم التردي في صناعاتنا المحلية نستطيع اللجوء إلى الأوروبي المستورد وبكل سرور.
تذوقت “الماكدونالدز” ذات يوم لمجرد الفضول، كان ذلك في أحد مولات دبي، ومع أول لقمة استغربت هذا الإقبال عليه، لا طعم ولا نكهة، منتج بلاستيكي لتعبئة المعدة، كالعلف الصناعي المستخدم لتغذية الدجاج في المداجن. وفي الفسحة الواسعة المخصصة لطاولات المطاعم ذات العلامات التجارية رأيت البشر بلغاتهم وألوانهم المختلفة بالحركة البطيئة يرفعون السندويشات لأفواههم بحركة واحدة، يقضمون، يعلكون، ثم يعيدون السندويشة لمكانها على الصينية البلاستيكية البيضاء أمامهم، ليتناولوا علبة مشروب غازي ملونة أو كوباً بلاستيكياً يحمل علامة تجارية، يرفعونها لأفواههم، ويشربون. تتكرر حركاتهم الميكانيكية المبرمجة ببطء أمام عيني، لأحس نفسي داخل سطور جورج أورويل في 1984. يومها لم أكمل طعامي. قهوة بيروت لم استطع التلذذ بطعمها، خاصة “الأميركية” منها، مياه سوداء ساخنة دون رائحة، ولا طعم، وكذلك القهوة الفرنسية التي تصنع في إبريق معقّد من طابقين يحتاج فلاتر دائرية كتنانير الدراويش.
وفي الفندق أقف أمام آلة “الاكسبريسو” عاجزة عن فهم آلية عملها، وكأنني أقف أمام مفاعل نووي صغير أو قنبلة موقوتة أخاف أن أضغط على أزرارها كي لا تنفجر في وجهي. ما أسهل صنع القهوة العربية في البيت، بعض الماء في الدلّة وملعقة قهوة، تغلي فوق الزهرة الزرقاء الصغيرة لعين الغاز إلى أن تزول رغوتها التي لا أحب، رغم ان البعض يقول بأنها تجلب الرزق. في دمشق احب الحديث مع سائقي التكاسي والسرافيس لكنني أرتبك في بيروت، ما زلت أحمل ذلك الحاجز النفسي بأنني أتكلم اللهجة السورية في دولة أنهكها الوجود السوري. لكنني ومع تجاوز هذا الحاجز أحب سماع سائقيها وهم يحدّثوني في السياسة العالمية والمحلية، عن موازين القوى الطائفية في لبنان وأحياناً عن أقاربهم في سوريا، مغامراتهم النسائية، الغلاء وحيواناتهم الأليفة. لم يبق من أبواب بيروت السبعة ولا أسوارها القديمة سوى أسماء علقت في ذاكرة العجائز، واختفت المفاتيح، ففتحت المدينة صدرها دون مفتاح للريح والمطر ولرذاذ البحر والعابرين.